الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوم موسى هم من آمن به، وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومَن آمن من القبط.واللام في قوله: {ليفسدوا} لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللًا بالفساد، وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز: شُبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله، واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوَضًا عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8].والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية، ومغادرة أرض الاستعباد.و{الأرض} مملكة فرعون وهي قطر مصر.وقوله: {ويذَرَك} عطف على {ليفسدوا} فهو داخلي التعليل المجازي، لأنّ هذا حاصل في بقائهم دون شك، ومعنى تركهم فرعون، تركهم تأليهه وتعظيمه، ومعنى ترك آلهته نبذُهم عبادتَها ونهيُهم الناس عن عبادتها.والآلهة جمع إله، ووزنه أفعلة، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صورًا عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار، أشهرها فتاح وهو أعظمها عندهم وكان يُعبد بمدينة مَنْفيس، ومنها رع وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس، ومنها ازيريس وإزيس وهوروس وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن، ومنها توت وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة، ومنها أمُون رع فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم.وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل إيبيس ومثل الجعران وهو الجُعل.وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعونُ إلى بُنوتهِ وخدمته، وكان فرعون معدودًا ابنَ الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول، ففرعون هو المنفذ للدين، وكان يعد إله مصر، وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه: {فقال أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] {ما علمْتُ لكم من إله غيري} [القصص: 38].وتوعُد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه، فالإضافة على معنى {من} التبعيضية.وقرأ نافع وابن كثير، وأبو جعفر: {سنقتل} بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب.والاستحياء: مبالغة في الإحياء، فالسين والتاء فيه للمبالغة، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدمًا.وجملة: {وإنّا فوقهم قاهرون} اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه، أي: هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر: الغالب بإذلال.و{فوقهم} مستعمل مجازًا في التمكن من الشيء وكلمة {فوقهم} مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره، فهي تمثيلية. اهـ.
والمعنى: كيف يكون الجمعُ بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك، أي: لا يمكن وقوعُ ذلك.وقرأ الحسنُ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة {وَيَذَرُكَ} برفع الرَّاء، وفيها ثلاثة أوُجه:أظهرها: أنَّه عطف نسق على {أتذر} أي: أتطلق له ذلك.الثاني: أنه استئناف أي، إخبار بذلك.الثالث: أنَّهُ حالٌ، ولابد من إضمارِ مبتدأ، أي: وهو يَذَرُكَ.وقرأ الحسنُ أيضًا والأشهبُ العُقَيْلِيُّ {وَيَذَرْكُ} بالجزم، وفيه وجهان:أحدهما: أنَّه جزم على التَّوهُّم، كأنه توهَّم جزم {يُفْسِدُوا} في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ، كقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] بجزم {أكُنْ}.والثاني: أنَّهَأ تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] وبابه.وقرأ أنس بن مالك {ونَذَرُكَ} بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ، تَوَعَّدُوهُ بذلك، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبرًا محضًا.وقرأ عبد الله والاعمش بما يخالف السَّوادَ، فلا حاجة إلى ذكره.وقرأ العامةُ {آلهَتَكَ} بالجمع.رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلًا، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24].وقرأ علي بنُ أبي طالب، وابنُ مسعود، وابن عبَّاسٍ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ {وإلاهتكَ}، وفيها وجهان:أحدهما: أنَّ الإلاهَةَ اسمٌ للمعبود، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون، وهي الشَّمْسُ.رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ، والشَّمْسُ تُسَمَّى الإهَةً، عَلَمًا عليها، ولذلك مُنِعَت الصَّرف، للعمليَّة والتأنيث؛ قال الشَّاعرُ: [الوافر] والثاني: أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة، أي وتذرُ عبادتك، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه.ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة، ويقرأ {وإلاهتك}، وكان يقول: إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ.قال ابنُ الخطيبِ: والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا: إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عَاقِلًا لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقًا للسَّمواتِ والأرضِ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ، بل الأقربُ ان يقال: إنَّهُ كان دَهْريًا مُنكرًا لوجود الصَّانِع، وكان يقُولُ: مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق، والمُربي لهم فهو نفسه.فقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] أي: مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم.وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] أي: لا أعلم لكم أحدًا يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصنامًا على صور الكواكب يعبدها، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} على ظاهره.قوله: {قَالَ سَنُقَتِّلُ} قرأ نافعٌ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ.وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا {يُقَتِّلُونَ أبناءكم} بالتضعيف إلاَّ نافعًا فيخفف.فتخلص من ذلك انَّ نافعًا يقرأ الفعلين بالتخفيف، وابن كثير يُخَفف {سنَقْتُل} ويثقل {يُقَتِّلُونَ}، والباقون يثقِّلونها. اهـ. باختصار.
|